التزام الأشخاص العامة بالتدخل

Research output: Book/ReportBook

Abstract

موضوع الدراسة:- إن ما يعتري واقعنا المعاصر من انتهاكات لحقوق الأفراد وحرياتهم يلقي بظلاله ـ دون شك ـ على مسألة صارت من المسلمات الآن، تتمثل في ضرورة تأكيد سيادة القانون ليس فقط بشأن العلاقات التي تنشأ بين الأفراد، ولكن أيضًا بالنسبة للعلاقات التي تنشأ بين هؤلاء الأفراد والدولة، وذلك من أجل القضاء على هذه الانتهاكات، وكذا لإسباغ حماية فعالة على حقوق الأفراد وحرياتهم. ومما يعضد من ضرورة تفعيل تلك الحماية هو ما تتمتع به الأشخاص العامة من قوة جبرية وامتياز التنفيذ المباشر لقراراتها، بحيث إذا لم تخضع للقانون، لترتب على ذلك تحول سلطتها تلك إلى أداة تنتهك بها حقوق الأفراد وحرياتهم. وحسبنا في ذلك ما نصت عليه المادة 64 من الدستور المصري الحالي الصادر عام 1971 من أن "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة". ومفاد هذا أنه يجب خضوع كل من في الدولة من حكام ومحكومين، سلطات عامة وأفراد للقانون، على نحو تتم فيه تصرفاتهم الإيجابية والسلبية وفق الإطار القانوني في الدولة، وهو ما يطلق عليه مبدأ المشروعية، والذي يمثل في وقتنا الراهن قمة الضمانات الأساسية لحقوق وحريات الأفراد( )، فضلاً عن كونه أحد المبادئ القانونية العامة واجبة التطبيق دون الحاجة إلى وجود نص قانوني يقتضي ذلك( ). والواقع أن مبدأ المشروعية هذا يفرض نوعين من الالتزامات على عاتق الدولة، أولهما: التزام إيجابي، يتمثل في وجوب قيام الدولة بالتدخل لاتخاذ ما يلزم نحو تأكيد حقوق الأفراد وحرياتهم، فضلاً عن تقديمها ما يلزم لمواطنيها من وسائل تعد ضرورية لمساعدتهم على استخدام هذه الحقوق وتلك الحريات بشكل ميسر. ثانيهما: التزام سلبي، مؤداه التزام الدولة بعدم القيام بأي عمل من شأنه أن يُعيق الأفراد عن ممارسة حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم بموجب الدستور، أو يُقلل منها، أو يُمثل انتهاكًا من جانبها في هذا الإطار( ). وتجدر الإشارة إلى أن خضوع الأشخاص العامة لمبدأ المشروعية يجد مكانه سواء أكانت تباشر نشاطها وفقًا لاختصاص مقيد أم كانت بصدد مباشرة نشاطها في ضوء اختصاص تقديري. فقد يحدد القانون للإدارة القرار الذي يجب عليها اتخاذه في حالة توافر شروط معينة، إذ لا يكون لها الحرية في الامتناع عن اتخاذ هذا القرار، حيث يحدد لها سلفًا الهدف وكيفية الوصول إلى هذا الهدف، ومن ثم لا يكون أمامها إلا اتباع الأوامر التي حددها القانون لها، وهذا ما يسمي الاختصاص المقيد La Competence lieé. وفي حالات أخرى لا يفرض القانون على الإدارة تصرفًا معينًا عندما تباشر اختصاصاتها، بحيث يكون لها الحرية في تقدير مدي ملاءمة تدخلها لممارسة اختصاص ما من حيث اتخاذ القرار أو الامتناع عن اتخاذه، واختيارها المضمون الذي تراه لقرارها، وكذلك الوسائل اللازمة لاتخاذ هذا القرار، وأيضًا الوقت المناسب لذلك، وهو ما يسمي السلطة التقديريةPouvoir Discretionnaire ( ). ولا مراء في أن السلطتين المقيدة والتقديرية على السواء، تعدان أمران ضروريان، فإذا كانت السلطة المقيدة بمثابة ضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم ضد تعسف الإدارة وجورها، فإن السلطة التقديرية في الوقت ذاته تعد ضرورية هي الأخرى، بغية تمكنها من حسن أدائها لوظائفها وفقًا للظروف والملابسات، وحتى لا ينقلب نشاطها إلى أداة يكون من شأنها تعطيل سير المرافق العامة، ووصم القانون بالجمود والتخلف عن مقتضيات الحياة اليومية سريعة التطور. ففي أغلب الأحيان يتعذر على القانون مواجهة جميع الحالات الجزئية التي تنطبق عليها في المستقبل، إذ أن مهمته تقف عند حد وضع القواعد العامة والخطوط العريضة، دون الانغماس في التفصيلات والجزئيات، تاركاً بذلك للسلطة اللائحية التنفيذية قدرًا من حرية التقدير والملاءمة تعالج به الحالات الفردية في ضوء ظروف الواقع وملابساته( ). بيد أن ذلك لا يعني أن السلطة التقديرية تقترب بهذا من السلطة التعسفية، وإنما هي سلطة قانونية لا تخول للإدارة سوى حق الاختيار بين قرارين أو مسلكين أو أكثر باعتباره الأكثر ملاءمة، شريطة أن يكون القرار الذي تختاره جهة الإدارة متفقًا في كل الأحوال مع المشروعية( ). ولا ريب أن الوصول لذلك يتطلب من جهة الإدارة أن تضع نفسها وهي تباشر سلطتها التقديرية في أفضل الظروف والأحوال، على نحو يُمكنها من إصدار قراراتها تبعًا لمعايير موضوعية، هادفة منها تحقيق الصالح العام، فإذا انحرفت عن هذه الغاية كان عملها حينئذ مشوبًا بعدم المشروعية( ). وبغية التوفيق بين اعتبارات حماية حقوق وحريات الأفراد واعتبارات عدم جعل مبدأ المشروعية عاملاً معوقًا لنشاط الإدارة، نجد أن المشرع قد سمح للإدارة بمباشرة اختصاصاتها بقدر من الحرية، يختلف مداها من تصرف لآخر تبعًا لما إذا كان من الواجب ترجيح كفة الأفراد أم ترجيح كفة الإدارة. ففي بعض الحالات يضيق المشرع من نطاق هذه الحرية على نحو تصبح معه اختصاصات الإدارة أقرب ما يكون إلى الاختصاصات المقيدة. بينما في حالات أخرى نجده يوسع من نطاق هذه الحرية بدرجة كبيرة، على نحو يُقرب اختصاصات الإدارة من نطاق الاختصاصات التقديرية ( ). إن التزام الأشخاص العامة فيما تباشره من أعمال وتصرفات باحترام مختلف القواعد القانونية المنبثقة عن المصادر المختلفة لمبدأ المشروعية، يؤدي دون شك إلى تحقيق نتائج إيجابية في مجال حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، تأسيسًا على ما يوجبه الالتزام بمبدأ المشروعية من منع الأشخاص العامة من انتهاج سبل التعسف والاستبداد في علاقاتها بالأفراد، وأن تقوم بأنشطتها واختصاصاتها وفق النظام القانوني السائد في المجتمع( ). وثمة التزام آخر يفرضه مبدأ المشروعية، يمثل دعامة أساسية في مجال حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وهو خضوع أعمال الإدارة وأنشطتها لرقابة القضاء( ). وفي هذا الخصوص قضت المحكمة العليا في مصر بأنه "مبدأ الشرعية وسيادة القانون، وهو المبدأ الذي يوجب خضوع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده في كافة أعمالها وتصرفاتها، هذا المبدأ لن ينتج أثره إلا بقيام مبدأ آخر يكمله ويعتبر ضروريًا مثله، لأن الإخلال به يودي بمبدأ المشروعية ويسلمه إلى العدم، ذلك هو مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين من جهة، وعلى مشروعية القرارات الإدارية من جهة أخرى، لأن هذه الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية، فهي التي تكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون، كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي تجاوزت تلك الحدود"( ). إلا أننا نرى أن مبدأ المشروعية يتضمن شقًا آخر يمثل ذات الأهمية، وهو التزام الأشخاص العامة بالتدخل للقيام بالأعمال والتصرفات الإدارية. مثل هذا الالتزام بالتدخل، وإن لم يتحدد مضمونه بشكل واضح إلا منذ منتصف القرن الماضي( )، إلا أن فكرة الالتزام بالتدخل تعود بجذورها إلى بداية نشأة الدولة، إذ هي ـ كما يقول جانب من الفقه ـ فكرة قديمة قدم الدولة بمعناها القانوني، كان هدفها الأساس هو تأكيد سيادة القانون، فضلاً عن ضمان احترام حقوق الأفراد الأساسية( ). ومع كثرة مجالات التزام الأشخاص العامة بالتدخل وتنوعها، إلا أن الالتزام بالتدخل لتنفيذ القوانين يعد أحد أهم المهام الرئيسة للأشخاص العامة، إذ لا يستطيع أن ينازع أحد في أن وظيفة السلطة التنفيذية هي تنفيذ القوانين، وهي تعتمد في ذلك على ما ترسمه لها السلطة التشريعية. كما يفرض السهر على تنفيذ القوانين التزامًا بسن قواعد ضابطة لنشاطها الإداري، ولذلك أطلق عليها وهي بسبيل القيام بهذا النشاط اسم "الإدارة الشارعة" L'administration legislatrice( ). وبناءً على ذلك، فإن التزام جهة الإدارة بالتدخل لتنفيذ القوانين، يتسع ليشمل مهمة عامة شاملة مؤداها اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على استمرار الحياة اليومية، مما يفرض على جهة الإدارة التزامًا بالتدخل للحفاظ على النظام العام بمدلولاته المختلفة، مستندة في قيامها بهذه المهمة على ما تتمتع به من اختصاص عام، وكذا على سلطتها المخولة لها بموجب الدستور بشأن تنفيذ القوانين( )، دون حاجة إلى وجود أوامر وتعليمات صريحة من المشرع يكفل لها ذلك( ). يضاف إلى هذا، أن التزام جهة الإدارة بتنفيذ القوانين يوجب عليها تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المجتمع، وذلك بضمان رعاية صحية واجتماعية لكل فرد في المجتمع بصورة تؤمن له حاضره ومستقبله وتحفظ له كرامته. وتأكيدًا على ذلك فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأنه "وحيث إن مقتضى ما نص عليه الدستور في المادة (7) من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعنى وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، إمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وترابط أفرادها فيما بينهم فلا يكون بعضهم لبعض إلا ظهيرًا، ولا يتناحرون طمعًا، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم عن حماية تلك المصالح، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازًا، ولا أن ينال قدرًا من الحقوق يكون بها ـ عدوانًا ـ أكثر علوًا، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق وتتهيأ منها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار"( ). ولقد كشفت لنا ثورة مصر الأخيرة أهمية مبدأ العدالة الاجتماعية، وبينت الأثر المترتب على إغفاله، حيث قامت الدولة بالكثير من التدابير لإعمال هذا مبدأ واتخاذ عدة إجراءات ترتكن إلى فكرة التضامن الاجتماعي، سواء عن طريق منح تعويض بطالة للأفراد الذين فقدوا أعمالهم، وتعويض أصحاب المشروعات والممتلكات الخاصة التي تعرضت لعمليات سلب وتخريب أثناء تلك الأحداث، أم من خلال منح معاش استثنائي ومكافأة لأسر الشهداء، أم غير ذلك من الإجراءات. نطاق الدراسة:- على الرغم من أن مجالات التزام الأشخاص العامة بالتدخل كثيرة ومتنوعة، إلا أن دراستنا ستقتصر على دراسة ثلاثة التزامات منها، أولها: التزام الأشخاص العامة بالتدخل لتنفيذ القوانين، وثانيها: الالتزام بالتدخل لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للحفاظ على النظام العام، وثالثها: الالتزام بالتدخل في المسائل الاجتماعية، مع ترك غيرها من الالتزامات لدراسات أخرى قادمة إن شاء الله تعالي، ذلك لأن الحاجة إلى تعميق الدراسة يفرض علينا قصر الدراسة على هذه الالتزامات فقط. منهج الدراسة:- تفرض علينا مقتضيات البحث العلمي ضرورة تحديد منهج لدراستنا، لذا فستكون دراستنا لموضوع "التزام الأشخاص العامة بالتدخل" دراسة تحليلية تأصيلية مقارنة. فهي دراسة تحليلية تعتمد على منهج علمي يحلل في إطاره النصوص القانونية، للوقوف على ما هو صحيح يساعد تطبيقه الحالي على الوصول إلى أفضل الحلول القانونية، وما قد يحتاج لتعديل في الفترة القادمة. كما تعد دراسة تأصيلية، حيث سنقوم بعرض التشريعات والأحكام القضائية وكذلك الاجتهادات الفقهية التي أدت إلى نشوء مبادىء وحلول كانت بمثابة نبراسًا يسير على هديه الفقه والقضاء في الوقت الراهن. وأخيرًا ستكون دراستنا دراسة مقارنة بين النظام القانوني المصري ونظيره الفرنسي، وذلك من خلال طرح الحلول التشريعية والقضائية والفقهية في كل من فرنسا ومصر. ويتجلى ذلك في استفادة كل من المشرع والقضاء في مصر من تجارب نظيريهما في فرنسا، بغية سد ما يوجد من نقص في النظام القانوني المصري في هذا الإطار. خطة الدراسة:- وتأسيسًا على ما سبق، فقد آثرنا تقسيم دراستنا لموضوع التزام الأشخاص العامة بالتدخل إلى بابين، يعقبهما خاتمةً نعرض فيها لأهم النتائج والتوصيات، وذلك على النحو التالي: الباب الأول: مجالات التزام الأشخاص العامة بالتدخل. الفصل الأول: التزام الأشخاص العامة بالتدخل لتنفيذ القوانين. الفصل الثاني: التزام الأشخاص العامة بالتدخل للحفاظ على النظام العام. الفصل الثالث: التزام الأشخاص العامة بالتدخل في المسائل الاجتماعية. الباب الثاني: الأثار المترتبة على إخلال الأشخاص العامة بالالتزام بالتدخل. الفصل الأول: مسئولية الأشخاص العامة عن الإخلال بالالتزام بالتدخل. الفصل الثاني: سلطة القاضي الإداري في توجيه أوامر للأشخاص العامة لإلزامها بالتدخل.

Original languageArabic
Place of Publicationكلية الحقوق - جامعة المنصورة
Publication statusPublished - 2011

Cite this